انتشرت ظاهرة المقاتلين الأجانب، سواء من العرب أو أولئك الحاملين لجنسيات غربية، بشكل واسع في ساحات القتال بكل من العراق وسوريا، مما حدا بالعديد من المهتمين إلى دق ناقوس الخطر من تزايد هذه الظاهرة، وعواقبها على استقرار المجتمعات الغربية، وهو ما أعاد احتدام الجدل حول أسباب تفاقم تلك الظاهرة المسكوت عنها نسبياً في دوائر الإعلام الغربي الذي بدأ يوجه اتهاماته نحو التطرف الإسلامي والجهاد العالمي.
وبالمقابل يغيب نسبياً السؤال الآخر، وهو: لماذا يختار أولئك الذين ولدوا وعاشوا في البلاد الغربية تركها والتوجه إلى ساحات الفوضى لقتال أنظمة عربية أو قوات غربية؟ وهو ما تحاول السطور التالية التطرق إليه بالبحث عن أسباب تزايد الهجمات الإرهابية داخل الدول الغربية، مع التركيز على نموذجين من الدول التي عرفت مؤخراً حوادث إرهابية (كندا وفرنسا) للمقارنة بينهما، وهما الدولتان اللتان تضمان ضمن نسيجهما المجتمعي جاليات مسلمة.
سمات مختلفة لإدارة الاندماج غربياً
في المجتمعات التعددية التي تشيع فيها التنوعات الثقافية أو الدينية أو العرقية أو الإثنية، تبرز اختلافات تصل أحياناً إلى حد الصراعات واستخدام العنف لحل هذه الاختلافات أو لتصفية تلك الصراعات، وتأتي طبيعة الخلاف أو الصراع بسبب رغبة كل فئة داخل هذه المجتمعات في فرض سيطرتها على الفئات الأخرى، والحصول على مساحة أكبر من الحكم والسلطة والاقتصاد. كما تكمن مشكلة هذه المجتمعات في كيفية إدارة هذه الاختلافات ومنع وصولها إلى مرحلة الصراع والعنف والاقتتال.
ويمكن الإشارة إلى نوعين رئيسيين من الدول عند الحديث عن طبيعة الدول التعددية، النوع الأول يتعلق بالدول التي بُنيت أساساً على مفهوم الهجرة، أي دعوة أفراد وجماعات من أعراق وإثنيات وديانات وطوائف متعددة لترك بلدانهم الأصلية والالتحاق بهذه البلاد (مثل الولايات المتحدة وكندا واستراليا).
أما النوع الثاني فهي الدول التي كانت متجانسة مجتمعياً، لكنها اضطرت لجلب المهاجرين للعمل فيها وسد النقص الحاصل فيها خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، وتعد فرنسا أبرز مثال في هذا الشأن، حيث عمدت إلى السماح للمهاجرين من مستعمراتها السابقة في أفريقيا للإقامة والعمل فيها، ثم عمدت إلى منحهم ومنح أولادهم جنسيتها بشروط عديدة ليصبحوا مواطنين بها.
هذان النموذجان وإن بدا متشابهين، إلا أنهما يختلفان كلياً في سياساتهما وأيديولوجيتهما وطريقة إدارتهما للاختلاف الثقافي داخل مجتمعاتهم. فالأول ارتضى منذ البداية اعتماد نموذج يحث على ضرورة التعايش بين مختلف الأعراق والإثنيات والأديان واحترام خصوصيات الآخر، مع بعض الاستثناءات كحالة السود في الولايات المتحدة.
أما في النموذج الثاني، ففكرة احترام خصوصيات الآخر هي فكرة طارئة على المجتمع الأصلي المتجانس والراغب في الحفاظ أولاً على تجانسه وسموه، ثم تدرج في فهمه للتعايش مع الآخر من فكرة الاستيعاب، أي فرض قيم المجتمع الأصلي على الوافدين وحثهم على القبول بشروط المجتمع الأصلي، وصولاً إلى فكرة الاندماج تحت ضغوط مفاهيم كونية مثل حقوق الإنسان.
وهكذا، وعلى الرغم من التشابه الموجود حالياً بين هذين النموذجين (نموذج دول الهجرة، ودول المجتمع الأصلي) في بعض القضايا المتعلقة بطريقة إدارة الاختلاف الثقافي؛ فإنهما يختلفان كلياً في الرؤية وأيديولوجية المعالجة. فدول الهجرة التي تأسست منذ ما يقارب قرنين من الزمان حاولت فيها الجماعات الأولى فرض ثقافتها ولغتها ودينها لتكون النواة الصاهرة لكافة الجماعات اللاحقة في الهجرة، إلا أن هذا لم يتحقق في ظل كفاح الجماعات الأخرى لنيل كافة الحقوق، مُتسلحةً بفكرة أن الهجرة إلى هذه البلاد في أي سنة تعطيها حق المواطنة الكاملة، ويتجسد هذا اليوم في كندا والولايات المتحدة التي تمنح جنسيتها إلى كافة الأطفال المولودين على أراضيها دون النظر إلى جنسية الأب أو الأم.
أما النموذج الثاني فهو حال معظم الدول الأوروبية المستقبلة اضطرارياً للأجانب، والتي لا تمنح الإقامة فيها إلا بوجود عقود عمل أو بغرض الدراسة، ولا تمنح جنسيتها للأطفال الذين ولدوا على أراضيها إلا في حالة أن يكون أحد الأبوين حاصل على الجنسية، ويبقى دوماً نضال هذه الجماعات في مجال نيل الحقوق بعيداً عن مفهوم المواطنة، ويظل حبيس مفاهيم أخرى إنسانية.
وما يحدث حالياً في أوروبا تحديداً من بوادر حقبة جديدة قد يتحول فيها الاختلاف الثقافي إلى خلاف وعنف أيديولوجي بين المجتمع الأصلي المتجانس وأفراد وجماعات من الأجانب وإن حملوا جنسية البلد من أبناء المهاجرين من الجيل الثاني أو الثالث، ما هي إلا تراكمات فشل الدول الأوروبية المستقبلة أو المضيفة في إدارة الاختلاف الثقافي الطارئ على مجتمعاتها طيلة النصف الأخير من القرن الماضي، وعدم قدرة المجتمع للوصول إلى مرحلة القبول بالآخر وحقه في الاختلاف.
ولتوضيح سياسات كلا النموذجين (دول الهجرة، ودول المجتمع الأصلي المتجانس)، سيتم التركيز على كندا لتمثل نموذجاً للهجرة، وفرنسا لتمثل نموذجاً لمفهوم الدولة المضيفة، وقد تم اختيار هاتين الدولتين على اعتبار أن كليهما عرفا مؤخراً حوادث إرهابية ارتبطت داخل إعلام البلدين بالجهاد الإسلامي.
النموذج الكندي (البيئة المناسبة)
يشكل النموذج الكندي دولة المهاجرين التي تحاول أن تخلق بيئة مناسبة للتعايش بين مختلف الجماعات والهويات على أساس المواطنة الكاملة وعلى قدم المساواة وتحت سيادة القانون، وذلك بتوفير حد أدنى لشروط الحصول على الجنسية الكندية وحزمة من سياسات الرفاه الاجتماعي التي تساعد المهاجرين الجدد على التمتع بحياة كريمة.
ومن جهة أخرى، تحاول الدولة ألا تفرض نموذجاً موحداً لمختلف الهويات الجماعية والفردية. وثمة أدلة عديدة على ذلك، منها إطلاق حرية الدين والمعتقدات، فلا يوجد إطلاقاً أي تضييق على ممارسة الشعائر الدينية التي لا تمس حرية الآخرين أو الأمن القومي أو الصحة العامة. فكل الحريات مكفولة بمقتضى وثيقة الحقوق والحريات الكندية التي هي بمثابة دستور للحريات يمنع في كافة المقاطعات الكندية سن قوانين تخالف هذه الوثيقة.
وعلى المستوى الثقافي والتعليمي، توجد حرية كبيرة في مسألة إنشاء مدارس خاصة بالجاليات المختلفة، فالجماعات اليهودية لديها مدارس تُدرَس عادةً الدين اليهودي، إلى جانب المنهج التعليمي العام، كما أن الجاليات المسلمة لديها نفس الحق.
ومن الأدلة أيضاً، ما حدث في عام 2014 عندما أقدم الحزب الكيبيكي (Quebec Party) في مقاطعة الكيبك - وهي مقاطعة فرنسية في كندا غالبيتها من الفرنسيين - على سن وثيقة أسماها "وثيقة القيم الكيبيكية". وأهم ما جاء فيها هو الدعوة إلى منع الرموز الدينية بما فيها الحجاب في المدارس العمومية والوظائف العامة، وقد فضل "الحزب الكيبيكي" إرجاع قرار الموافقة على هذه الوثيقة إلى الناخبين، ودعا لانتخابات مبكرة بغرض الحصول على الأغلبية البرلمانية وتمرير هذا القانون داخل البرلمان الجديد. وقد شاركت الجاليات المسلمة في الانتخابات بكثافة انطلاقاً من وعيهم بمفهوم المواطنة وقدرتهم على التغيير، وساهموا بالفعل في إسقاط "الحزب الكيبيكي" من خلال تصويتهم لصالح الحزب الليبرالي.
النموذج الفرنسي (البيئة الطاردة)
هو نموذج الدولة المضيفة كما في معظم الدول الأوروبية التي اضطرت إلى السماح لبضعة آلاف من العمال للدخول والإقامة على أراضيها بحجة سد النقص في الأيدي العاملة في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية التي راح ضحيتها الملايين من الرجال، وقد أطلق عليهم تجاوزاً بعد ذلك "العمال المهاجرون"، وكان معظمهم من أبناء شمال أفريقيا من المغرب والجزائر، وأيضاً من أفريقيا جنوب الصحراء.
في البداية، لم تكن فرنسا تحتاج إلى سياسة لإدارة "الاختلاف الثقافي" الطارئ على المجتمع من وجود هؤلاء العمال الذين لم يكونوا مهتمين بالبقاء في فرنسا لأجيال ممتدة، فالعديد منهم كان يعيش في فرنسا دون عائلته، كما لم يحصلوا على الجنسية الفرنسية، وربما كانت هذه هي سياسة باريس في حمايتها للهوية الوطنية بأن تمنع على هؤلاء التفكير في الحصول على الجنسية والمطالبة بعدها بحقوق المواطنة.
وكان الاستثناء الوحيد في هذا الشأن هو حالة بعض الجزائريين الذين ولدوا في الفترة التي اعتبرت فرنسا خلالها الجزائر بمثابة أراض فرنسية. ولقد شكل هؤلاء النواة الأولى للاختلاف الثقافي في المجتمع الفرنسي المتجانس، وبدأوا في المطالبة شيئاً فشيئاً بحقوق المواطنة، ومن ثم وُلد أبناؤهم من الجيل الثاني كفرنسيين بديانة وثقافة ولغة لم يعهدها المجتمع الفرنسي من قِبل.
هنا فقط، بدأت فرنسا في التعاطي مع إشكالية الاختلاف الثقافي بعدما أحست بخطر التعددية الثقافية على الهوية الوطنية، وبدأت في سن القوانين المثيرة للجدل من قبيل قانون منع الحجاب في الوظائف والمدارس العامة، كما سمحت بصعود أحزاب يمينية مثل حزب الجبهة الوطنية المعادي للمهاجرين المسلمين بصفة خاصة، كذلك شرعت في حملة "تطهير" واسعة شملت كل الذين ليس لديهم أوراق إقامة في البلاد، وسنت قانوناً يسمح لها بشراء أوراق الإقامة من الراغبين في العودة لبلادهم والتنازل عن حق الإقامة.
لقد أرادت فرنسا أن تخلق نموذجاً موحداً في مجتمعها، لا يسمح بالحق في الاختلاف من خلال فرض نظام صارم للمواطنة. ولقد حفزت هذه السياسة المُعلنة مُتطرفي المجتمع لإطلاق يدهم وألسنتهم وكتاباتهم للخوض في موضوع المهاجرين، ووصل الأمر إلى حد المطالبة بسحب الجنسيات والطرد من البلاد، وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي في فرنسا مساحة للاستهزاء بمشاعر المسلمين، للحد الذي ينذر بتحول الاختلاف الثقافي إلى خلاف وعنف داخل المجتمع بسبب فشل السياسة الفرنسية في إيجاد صيغة ونموذج للتعايش داخل المجتمع.
وأولى بوادر هذا الخلاف العنيف ظهر في أكتوبر 2005 عندما اندلعت أعمال شغب واسعة في ضواحي باريس، حيث يقطن المهاجرون، على خلفية وفاة شبان اُشتبه في مطاردة الشرطة لهم. ولقد كانت هذه الأعمال احتجاجاً على سوء معاملة الشرطة لأبناء الضواحي الفرنسية من المهاجرين وارتفاع معدلات البطالة بينهم.
وبعدها توالت الحوادث العنصرية داخل فرنسا، حيث قُتل العديد من المهاجرين على أيدي متطرفين فرنسيين، وصولاً إلى حادثة جريدة "شارلي إبدو" الذي اتهمت فيه باريس شُباناً فرنسيين من أبناء المهاجرين بارتكابه، ليفتح الباب واسعاً أمام المزيد من التوتر داخل المجتمع الفرنسي والعديد من الدول الأوروبية التي لم تتمكن من إيجاد نموذج للتعايش المشترك مع الثقافات الواردة إليها.
الحوادث الإرهابية.. موقفا كندا وفرنسا
يتضح من عرض النموذجين الفرنسي والكندي أوجه الاختلاف بين طبيعة الدولتين وطبيعة المهاجرين الذين يعيشون داخل هذه المجتمعات، وتفنيد الأسباب التي تتهم الجاليات المسلمة في الدول الغربية بالإرهاب، حيث إهمال أبرز الأسباب الحقيقية وراء هذه الأفعال، ومنها فشل بعض هذه الدول في إيجاد بيئة مناسبة للتعايش المشترك والاندماج البنَّاء.
ولعل العروج على الحوادث الإرهابية الأخيرة الفردية التي شهدتها الدولتين توضح الاختلاف في التصرف والسلوكيات بين هذين النموذجين، فقد عرفت كندا حادثين وصفا بالإرهابيين خلال شهر أكتوبر 2014، تمثلا في هجوميين طالا جنود كنديين، الأول كان في مقاطعة كيبك، والثاني حدث أمام مبنى البرلمان الكندي في أوتاوا وراح ضحيته أيضا جندي كندي.
الدافع وراء الحادثين ظلا غامضاً، خاصة أن كندا لم تعرف مثل هذه الحوادث منذ فترة طويلة، واللافت أيضاً أن منفذي الهجوم لم يكونوا من العرب أو المهاجرين بل كانوا كنديين من أصول كندية أحدهما قيل إنه اعتنق الإسلام حديثاً، وكان يعاني من اضطرابات نفسية وأمراض عقلية ناتجة عن إدمانه للمخدرات.
وحاول الإعلام الكندي أن يصور الأمر على أنه إرهاب إسلامي مشابه للموجود في أوروبا، وأراد أن يستنتج أن ما حدث يستلزم إعادة النظر في الحريات والسياسات الكندية وسياسات الهجرة لصالح المزيد من الأمن، لكن السياسيين طمأنوا الجاليات المسلمة التي تعيش في كندا بأنه لا مساس بالقيم التي تحكم المجتمع التعددي في دولة مثل كندا، وتمثل ذلك في استدعاء رئيس الوزراء لمقاطعة الكيبك لأئمة المساجد لاجتماع للتأكيد على أنه لا تغيير في سياسة المقاطعة تجاه المسلمين.
من المهم أيضاً الإشارة إلى الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي يعرض فيه شاباً كندياً يقوم باختبار سيكولوجي من خلال رفضه صعود شريكه المرتدي لزي إسلامي إلى الحافلة بسبب تخوفه من أنه يحمل متفجرات، حيث تم اختبار رد فعل المجتمع وفق هذه التجربة بعد حادث البرلمان تجاه المسلمين، وبالفعل رفض كل المواطنين الذين كانوا في انتظار الحافلة سلوك الشاب وردوا عليه دعوته لإثارة الفتنة داخل أبناء المجتمع الواحد.
أما في فرنسا، فقد واصل الإعلام إلقاء اللوم على المهاجرين من المسلمين، رافضاً تقريباً الحديث عن انتقادات كبيرة للنموذج الفرنسي في التعايش المشترك، وفاتحاً الباب أمام إطلاق أيدي المتطرفين الفرنسيين للإضرار بالمسلمين المعتدلين؛ فقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تغريدات لقتل المسلمين، وغمرت هذه المواقع فيديوهات لإهانة مسلمين عقب خروجهم من المساجد، مما ينبئ بأن الخلاف داخل المجتمع الفرنسي من الجانبين قد يأخذ منحى أكثر عنفاً خلال الفترة المقبلة.